فصل: من فوائد الألوسي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الحكم الثاني: ما هو القتل العمد، وما هي عقوبته؟

القتل العمد يوجب القصاص، والحرمان من الميراث، والإثم وهذا باتفاق الفقهاء، أما الكفارة فقد أوجبها الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة لا كفارة عليه وهو مذهب الثوري.
قال الشافعي: إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى.
وقال أبو حنيفة: لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى، وحيث لم تذكر في العمد فلا كفارة.
قال ابن المنذر: «وما قاله أبو حنيفة به نقول، لأن الكفارات عبادات وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضًا يلزمه عباد الله إلا بكتابٍ، أو سنة، أو إجماع، وليس مع من فرض على القاتل عمدًا كفارةً حجةٌ من حيث ذكرت».
وقد اختلفوا في معنى العمد وشبه العمد على أقوال كثيرة أشهرها ثلاثة:
1- العمد ما كان بسلاح أو ما يجري مجراه مثل الذبح، أو بكل شيء محدّد أو بالنار وما سوى ذلك من القتل بالعصا أو بحجر صغيرًا كان أو كبيرًا فهو شبه العمد، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
2- العمد كل قتلٍ من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك، بما يقتل مثله في العادة، وشبه العمد ما لا يقتل مثله، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
3- العمد ما كان عمدًا في الضرب، والقتل، وشبه العمد ما كان عمدًا في الضرب، خطأ في القتل أي ما كان ضربًا لم يقصد به القتل وهذا قول الشافعي رحمه الله.
الترجيح: ما ذهب إليه (أبو حنيفة) رحمه الله من جعل كل قتلٍ بغير الحديد شبه عمد ضعيفٌ، فإن من ضرب رأس إنسان بمثل (حجر الرحى) قتله وادّعى أنه ليس عامدًا كان مكابرًا، والمصلحة تقضي بالقصاص في مثله، لأن الله شرع القصاص صونًا للأرواح عن الإهدار، وما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد الشافعي هو الأصح والله أعلم.

.الحكم الثالث: ما هي شروط الرقبة وعلى مَن تجب؟

أوجب الله في القتل الخطأ أمرين:
أ- عتق رقبة مؤمنة.
ب- ودية مسلّمة إلى أهله.
فأما الرقبة المؤمنة فقد قال ابن عباس والحسن: لا تجزئ الرقبة إلاّ إذا صامت وصلّت.
وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يجزئ الغلام والصبي إذا كان أحد أبويه مسلمًا.
ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله روايتان إحداهما تجزئ، والأخرى لا تجزئ إلا إذا صامت وصلت.
حجة الأولين: أن الله تعالى شرط الإيمان، فلابد من تحققه، والصبي لم يتحقق منه ذلك.
وحجة الجمهور: أن الله تعالى قال: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا} فيدخل فيه الصبي، فكذلك يدخل في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}.
قال ابن كثير: «والجمهور أنه متى كان مسلمًا صح عتقه عن الكفارة سواءً كان صغيرًا أو كبيرًا».
وقد اتفق الفقهاء على أن الرقبة على القاتل، وأما الدية فهي على العاقلة.

.الحكم الرابع: على مَن تجب الدية في القتل الخطأ؟

اتفق الفقهاء على أن الدية على عاقلة القاتل، تحملها عنه على طريق المواساة، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين، كل سنة ثلثها، والعاقلة هم عصبته (قرابته من جهة أبيه).
قال في «المغني»: «ولا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن دية الخطأ على العاقلة».
وقال ابن كثير: وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله قال الشافعي: لم أعلم مخالفًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وهذا الذي أشار إليه رحمه الله قد ثبت في غير ما حديث، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: «اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها (غرة) عبدٌ أو أمة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها».
تنبيه:
فإن قيل: كيف يجني الجاني وتؤخذ عاقلته بجريرته والله تعالى يقول: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] ويقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164]؟
فالجواب: أن هذا ليس من باب تحميل الرجل وزر غيره، لأن الدية على القاتل، وتحميل (العاقلة) إيّاها من باب المعاونة والمواساة له، وقد كان هذا معروفًا عند العرب وكانوا يعدونه من مكارم الأخلاق، والنبي صلى الله عليه وسلم بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، والمعاونة والمواساة والتناصر وتحمل المغارم، كل هذا ممّا يقوّي الألفة ويزيد في المحبة فلذلك أقره الإسلام.

.الحكم الخامس: كم هو مقدار الدية في العمد والخطأ؟

اتفق العلماء على أن الدية في الخطأ تجب على العاقلة، وهي مائة من الإبل تؤخذ نجومًا على ثلاث سنين وتجب أخماسًا لما رواه ابن مسعود قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكورًا، وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة، وعشرين حقة.
وأما دية شبه العمد فهي مثلّثة (أربعون خلفة، وثلاثون حقة، وثلاثون جذعة) وتجب على العاقلة أيضًا، وأما دية العمد فما اصطلح عليه عند أبي حنيفة ومالك على المشهور في قوله، وأما عند الشافعي فكدية شبه العمد، وتجب على مال القاتل.
قال القرطبي: «أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد، وأنها في مال الجاني».
وقال ابن الجوزي: «والدية للنفس ستة أبدال: من الذهب ألف دينار، ومن الورق (الفضة) اثنا عشر ألف درهم، ومن الإبل مائة، ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، وفي الحلل مائتا حلة، فهذه دية الذكر الحر المسلم، ودية الحرة المسلمة على النصف من ذلك».
وهذا قول جمهور الفقهاء ووافقهم أبو حنيفة في ذلك إلا أنه قال في الفضة عشر آلاف درهم لا تزيد.

.الحكم السادس: هل للقاتل عمدًا توبة؟

ذهب بعض العلماء إلى أن قاتل المؤمن عمدًا لا توبة له وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما.
روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: «اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقالت: نزلت هذه الآية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء».
وروى النسائي عنه قال: سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنًا متعمدًا من توبة؟ قال: لا، وقرأت عليه الآية التي في [الفرقان: 68] {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} قال: هذه آية مكية نسختها آية مدنية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ}.
وروى ابن جرير بسنده عن (سالم بن أبي الجعد) قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كُفّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فقال جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه، وأعدّ له عذابًا عظيمًا. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «يجيء يوم القيامة معلّقًا رأسُه بإحدى يديه- إما بيمينه أو بشماله- آخذًا صاحبه بيده الأخرى، تشخب أوداجه حيال عرش الرحمن يقول: يا رب سل عبدك هذا علام قتلني؟ فما جاء نبيٌ بعد نبيكم، ولا نزل كتاب بعد كتابكم».
وذهب الجمهور إلى أن توبة القاتل عمدًا مقبولة، واستدلوا على ذلك ببضعة أدلة نلخصها فيما يلي:
أولًا: إن الكفر أعظم من القتل العمد، فإذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة عن القتل أولى بالقبول.
ثانيًا: قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48] يدخل فيه القتل وغيره.
ثالثًا: قوله تعالى: {وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق...} إلى قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ} [الفرقان: 68- 70] ويه نصٌ في الباب.
رابعًا: حديث الصحيحين «بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق... ثم قال: فمن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه».
خامسًا: حديث مسلم في الشخص الذي قتل مائة نفس.. إلخ.
قال العلامة الشوكاني: «والحقّ أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ويقبل من صاحبه الخروج منه والدخول في باب التوبة، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمدًا؟ والله أحكم الحاكمين، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون».

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- سفك دم المؤمن من الكبائر التي توجب الخلود في النار.
2- القتل الخطأ فيه الكفارة والدية وليس فيه القصاص.
3- إذا عفا أهل القتيل سقطت الدية عن القاتل دون الكفارة.
4- الكفارة عتق رقبة مؤمنة فإذا لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
5- لا يجوز التعجل بقتل إنسان لمجرد الشبهة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا} بأن يقصد قتله بما يفرق الأجزاء، أو بما لا يطيقه ألبتة عالمًا بإيمانه، وهو نصب على الحال من فاعل {يُقْتَلُ}.
وروي عن الكسائي أنه سكن التاء وكأنه فر من توالي الحركات {فَجَزَاؤُهُ} الذي يستحقه بجنايته {جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا} أي ماكثًا إلى الأبد، أو مكثًا طويلًا إلى حيث شاء الله تعالى، وهو حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل: فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدًا.
وقال أبو البقاء: هو حال من الضمير المرفوع أو المنصوب في يجزاها المقدر، وقيل: هو المنصوب لا غير ويقدر جازاه، وأيد بأنه أنسب بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغة، ومنع جعله حالًا من الضمير المجرور في {فَجَزَاؤُهُ} لوجهين، أحدهما: أنه حال من المضاف إليه، وثانيهما: أنه فصل بين الحال وذيها بخبر المبتدأ، وقوله سبحانه: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ} عطف على مقدر تدل عليه الشرطية دلالة واضحة كأنه قيل: بطريق الاستئناف تقريرًا لمضمونها حكم الله تعالى بأن جزاءه ذلك وغضب عليه أي انتقم منه على ما عليه الأشاعرة {وَلَعَنَهُ} أي أبعده عن رحمته بجعل جزائه ما ذكر، وقيل: هو وما بعده معطوف على الخبر بتقدير أن وحمل الماضي على معنى المستقبل أي فجزاؤه جهنم وأن يغضب الله تعالى عليه إلخ {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} لا يقادر قدره.